الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد ,
فإن كثيراً من إخواننا المبتدئين في طلب العلم الشرعي -وأنا منهم- يواجهون عوائق عند قراءتهم للكتب والمقالات والخطط التي تتعلق بالمنهجيات العلمية , والساحة العلمية اليوم تشهد وفرة في الكتب الخاصة بهذا الباب , فما هو المنهج في التعامل مع هذه المنهجيات ..
هذا ما حاولت تلخيصه في هذا الموضوع , وقد أثاره في ذهني سؤال لأحد الإخوة عن كتاب الشيخ ذياب الغامدي (المنهج العلمي لطلاب العلم الشرعي) , وهل يصلح للتطبيق , أو لا يصلح ..
فأقول مستعيناً بالله :
أخي الحبيب ,
هاكها قواعد تتعامل بها مع كتب المنهجيات العلمية , أملاها عليّ وحي الخاطر , في نقاط مختصرة :
1. قراءتها ضرورية جداً , ومفيدة في العاجل القريب , أو الآجل البعيد .
2. من الصعب أن نقصر مجموعة من طلبة العلم على منهجية معينة , ونلزمهم بها , حتى لو كانوا صفوة وخُلّصا لشيخ معين ؛ إذ الرغبات , والهمم تختلف , فيبقى الأمر نسبيا , وفرديا .
3. لكل فنّ من الفنون ترومه منهجية معينة , ولا أقصد بالمنهجية "البدء بالأولى فالأولى" فذاك معلوم بالضرورة , ولكني أقصد معرفة ما هو الأولى معرفة دقيقة , حتى لا تخطىء القدمُ المسارَ , فمثلاً في كتب الحديث نقول: ما هي الكتب التي ينبغي أن تدرس أولاً لعموم الطلاب ثم لخواصهم, وهكذا ... والغالب أن العلماء يتفقون في تحديد تفاصيل هذه الأوليات المختصة بكل فنّ , ولكل فنّ أهلُه , وهم أدرى به من غيره !
4. وأما كتب المنهجيات التي عنيت بذكر ما يتعلق بالفنون عامة , فلها مساران : مسار أهل المشرق , ومسار أهل المغرب :
أما مسار المشارقة فطريق بدئهم يكون بعلوم الغاية كالعقيدة والفقه وما إلى ذلك , وأما مسار المغاربة فطريق بدئهم يكون بعلوم الآلة كعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وما إلى ذلك , ولكلّ مسار رجالُه وفوائده , والذين يبدؤون بعلوم الغاية يأخذون معها ما تلزمه الضرورة -بداية- من علوم الآلة, والذين يبدؤون بالآليات يأخذون ما يتعلق ضرورة بالغائيات.
5. وكان الناس في السابق يبدؤون بكل علم على حدة حتى يتقنو أصوله –مثلاً- , ثم ينتقلوا للفنّ الآخر, وهكذا دوليك ... ولكن الآن تغير الوضع , وأصبحت تؤخذ أوليات العلم في أهم الفنون جملة بطريقة معلومة عند الجميع , ولأجلها جاءت هذه المنهجيات .
5. لم أقف على كتاب في العصر الحديث خرج عن المسارين السابقين , وكتاب الشيخ ذياب على طريقة المشارقة, فيبقى النظر بنظرتك الخاصة , وحملاً على قدراتك ومواهبك التي تعرفها .
وإن الكتاب وضع منهجية علمية قويّة , وكأنه رام المثال الذي يحتذى , وإلا فمن النادر –كما يظهر لي- أن يخرج شخص يطبق منهجيته في سنتين , حتى لو كان مفرّغا تفريغاً تاماً ؛ إذ النفس لها صوارف وشواغل قهرية من سقم , وهمٍّ , وغمٍّ , وسفر ... إلخ , فمراد الشيخ هو المثال الذي يصبو إليه الطالب صاحب الهمة , ولا بدّ كما يقال : من سقف عالٍ ؛ إذ لو وضع شيئا أقل , لضعفت الهمم , وكان أخذهم من المطلوب دون ذلك , وكلما بعد المطلوب علت الهمة وقويت .
6. كلّ كتب المنهجيات عبارة عن خلاصة بلغ إليها العالم طوال خبرته المتراكمة عبر سنيّ طلبه في أفراد كل فنّ ؛ فهي خبرات شخصية يحكيها صاحبها , أكثر من كونها قواعد يضعها للطالبين , وهذا الذي يفسر سبب اختلافها , وليس سبب ذلك التنظير ومجرد الرأي ؛ إنما الواقع الذي عاشه وجربه صاحبها .
7. فإذا تقرر هذا ؛ جئنا إلى الخبرات عموماً وكيفية التعامل معها .
وللتربويين في هذا وقفات جيدة , لا أستحضرها الآن , ولكني أذكر منها أن كل خبرة تكتسبها يجب عليك أن تستفيد منها لا أن تطبقها بحذافيرها .
ولهم في ذلك قصص رمزية ليس هذا موضعها , وسأمثل على كلامي هذا بشيء يوضحه ويبسطه أكثر : حصل لك شيءٌ معين في يومٍ ما , ولنفرض أنك جئت لطريق معينة مؤدية إلى بيتك , وكانت الطريق مليئة بالأحجار والأشواك , ولم تكن عرفت الطريق من قبل , فعبرت هذا الطريق بأن قطعت الأشواك التي أمامك وسرت , وهكذا اكتسبت خبرة في القطع لم تمر عليك من قبل , وبقيت هذه الخبرة في ذهنك , ثم جاء صديق لك يوماً من طريق أخرى ثانية, وكان قد سمع منك قصة وطريقة قطعك للشوك , فوجد شوكاً من نوعٍ آخر يشبه الشوك القديم في الشكل , فلما همّ بقطعه لم يسطع مع أنك نفذ نفس ما نفذته سابقاً, ولكنه كان يفقد قوة داخلية! وسبب ذلك أن الشكل واحد , ولكن الحالة تغيرت . فعليك أن تلبس لكل حالة لبوسها , وعليك أن تأخذ الفكرة من الخبرة السابقة , وتضيف عليها خصوصيتك في هذه المهمة الجديدة .
وهكذا في كل خبرة تواجهك في حياتك , وكل خبرة تسمعها من شخص آخر , عليك أن تستفيد منها , لا أن تطبقها بحذافيرها , خاصة إن كانت من شخص آخر .
وهذا الكتب كما ذكرت هي في الأصل خبرات سابقة مطبقة , فلنتعامل معها كما سبقت الإشارة إليه ؛ فالإفادة منها , ومحاولة تطبيق ما فيها , وإن لم يستفد المرءُ منها فائدة عملية , فيكفي أنها تعيد في همته نشاط الطلب , وتبعثه على معاتبة نفسه وكدّها في ذلك الطريق الطويل .
فليقرأ طالب العلم هذه الكتب , ثم ليتخير ما يناسبه منها , ولا بد أن يضيف عليها رونقه الخاص الذي يمكّنه من مسايرتها , وإلا فسيصبح أسير المنهجيات العلمية النظرية.
وإنك إن بحثت ونقبت في سير العلماء المبرزين , لن تجدهم لزموا طريقة واحدة في الطلب , فلكل واحدٍ منهم طريقته ومنهجيته الخاصة , والاختلاف في ذلك من آيات الله في خلقه .
فقد يذهب أصحاب المنهجيات العلمية الذين برّزوا في علوم الغاية كالعقيدة والحديث والفقه إلى أن الطالب تكفيه في دراسة النحو –مثلاً- الآجرومية , ولكنك إن ذهبت لآخر مبرّزٍ في نفس العلوم سيقول لك: أقل شيء يكفي الطالب لدراسة النحو والإلمام بقواعده هي الألفية ! وقِسْ على قولي تكن علامة .
ولا يجعل طالب العلم المبتدئ بدءه في خطة معينة عائقاً عن قراءة ما يقع في يده من كتب المنهجيات العلمية لمن عرفوا بالتحرير والدقة العلمية = خوفاً من أن تصرفه عن هذه الخطة لخطة أخرى , لأن المرونة في وضع الخطة هي أهم أسباب نجاحها , فليزم خطته الأصلية , وإن بدا له شيء جديد أفاده من كتب أخرى فليقوّم مساره الفرعي , ويبقِ الأصل على ما هو عليه .
أخيراً : إن الناظر في كتب المنهجيات العلمية يجدها تتفق في أصول كل الفنون الشرعية , الغائية منها والآلية , ولكن الذي يختلف هو الطريق الموصل لها , فليتخير منها ما يناسبه , وليشكل منها إن أراد منهجية توافق قدراته الشخصية, ثم إن المنهجيات تختلف أكثر في الطرق الموصلة للمراحل المتوسطة منها , ويظهر الاختلاف جلياً في مراحل المنتهين .
وكل شخص أعلم بنفسه , وأخبر بها , فليضعها في المكان اللائق بها .
أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع , والعمل الصالح , إنه جواد كريم .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .