واقض الإسلام أكثر من عشرة نواقض لكن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: ذكر عشرة نواقض لأسباب منها: أن هذه النواقض مما اتفق العلماء على كونها نواقضًا للإسلام، ومنها: أن هذه النواقض الأكثر وقوعًا بين الناس، ومنها: أن هذه النواقض أشد النواقض خطرًا، ولذلك خصها الشيخ بالذكر والعناية كما ذكر في نهاية النواقض.
فائدة:
الكفر أعم من الشرك، لأن الكافر قد يكون جاحدًا للرب سبحانه وتعالى، لا يؤمن برب مثل فرعون والمعطلة والدهرية، وأما المشرك فإنه يؤمن بالرب ولكنه يشرك معه غيره فبين الكفر والشرك عموم وخصوص.
الناقض الأول:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:"اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض.
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وقال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر، وأشهرها الشرك في عبادة الله".
الشرح
المسألة الأولى: لابد للعبد أن يخاف على دينه.
إن مما ينبغي للمسلم مادام على قيد الحياة أن يخاف على دينه من الفتن والشبهات، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا» ومن أعظم ما يخافه المؤمن على دينه أن يرتد عن دين الإسلام فهذا إمام الحنفاء الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو ربه فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35-36].
فهذا الخليل عليه السلام وهو الذي كسر الأصنام بيده، وأوذي في سبيل الله من أجل ذلك وألقي في النار يخاف على نفسه أن يرتد عن التوحيد ويعبد الأصنام لأن الذين عبدوا الأصنام بشر عندهم عقول وإدراك ولم تنفعهم عقولهم ولا إدراكاتهم من النجاة من هذه الفتنة وهي عبادة الأصنام فأشركوا بالله، وها هو الخليل محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا وتوحيدًا يخاف على نفسه فيدعو ويقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فتقول له عائشة أم المؤمنين: "تخاف على نفسك؟" فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن» (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني)، فخاف عليه الصلاة والسلام على دينه فلجأ إلى الله بأن يثبته على دينه، فإذا كان حال الخليلين هكذا فمن كان دونهما من باب أولى أن يخاف على نفسه من الشبهات والفتن كيف لا ونحن في خضم فتن عظيمة، وشبهات مضللة، ودعاة سوء وأمواج تتلاطم تضل الجاهل وتربك المتعلم وهذا يحمل الإنسان على أن يخاف على دينه ويعتني بنفسه، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قول المصنف: "الشرك في عبادة الله"
لة الثانية: الشرك بالله. تعريفه وعواقبه.
الشرك لغة: يقال شاركت فلانًا صرت شريكه، والشرك يكون بمعنى الشرك وبمعنى النصيب وجمعه أشراك.
واصطلاحًا: جعل شريك لله في أولوهيته أو ربوبيته أو أسماءه وصفاته، والذي يغلب الإشراك فيه الألوهية.
وهو أعظم فتنة يجب أن يخافها المسلم على دينه ولا شك أن الشرك الأكبر أعظم ذنب عصي الله به وهو أشد نواقض الإسلام جرمًا وهو أصل كل شر وجماعه ومن عواقبه ما يلي:
أولًا: أنه يجعل صاحبه كافرًا مشركًا.
ثانيًا: أن صاحبه مخلدٌ في النار فقد حرم الله عليه الجنة. قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
ثالثًا: أن الله تعالى أخذ على نفسه ألا يغفر للمشرك إلا أن يتوب.
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، فلا يكفِّر الشركَ شيءٌ من أنواع المكفرات المعروفة إلا أن يتوب المشرك من شركه فهو محروم من المغفرة.
رابعًا: أن الشرك يحبط جميع الأعمال.
قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
خامسًا: أنه أعظم ذنب فهو الظلم العظيم
فقد روى أحمد والبخاري ومسلم حديث عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "أينا لم يظلم نفسه؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» .
وروى أحمد والشيخان أيضًا حديث عبدالله بن مسعود قال: "سألت رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟" قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» ، قلت: "إن ذلك لعظيم" الحديث.
سادسًا: أن الشرك يبيح دم المشرك وماله
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» فلا يعصم المال والدم إلا التوحيد واما الشرك فانه يبيح الدم والمال الا ما استثناه الشرع كاهل الذمة والهعد
اختلف أهل العلم في أقسام الشرك على قولين: القول الأول: أن أقسام الشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر. والقول الثاني: أن أقسام الشرك ثلاثة: شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي. والصواب والله أعلم القول الأول وأنهما قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
اختلف أهل العلم في أقسام الشرك على قولين:
القول الأول: أن أقسام الشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
والقول الثاني: أن أقسام الشرك ثلاثة: شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي.
والصواب والله أعلم القول الأول وأنهما قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
قال ابن القيم في (مدارج السالكين[1/368]): "أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله".
وأما الشرك الخفي فمنه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ومقالاته [1/46]: "وهناك شرك يقال له: الشرك الخفي... والصواب: أن هذا ليس قسماً ثالثاً، بل هو من الشرك الأصغر، وهو قد يكون خفياً لأنه يقوم بالقلوب كما في هذا الحديث، وكالذي يقرأ ويرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يرائي، أو يجاهد يرائي أو نحو ذلك... وقد يكون خفياً وهو من الشرك الأكبر كاعتقاد المنافقين فإنهم يراؤون بأعمالهم الظاهرة وكفرهم خفي لم يظهروه... وبما ذكرنا يعلم أن الشرك الخفي لا يخرج عن النوعين السابقين: شرك أكبر وشرك أصغر".
ن الشرك ينقسم إلى قسمين:
1- شرك أكبر.
2- شرك أصغر.
أولاً: الشرك الأكبر:
وهو مراد المصنف رحمه الله، وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله، ويدل على هذا التعريف قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97-98]، وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب من سأله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الاستقامة [1/344]): "أصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل بالله أحد من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك".
قال ابن القيم في نونيته:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر *** ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا *** كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه **ويحبه كمحبة الرحمن
وعرفه الشيخ السعدي فقال: "إن حدّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء(انظر القول السديد [43]، وانظر الحق الواضح المبين[59]).
فالشرك قد يكون في الاعتقاد وقد يكون في الأعمال وقد يكون في الأقوال.
أنواع الشرك الأكبر:
النوع الأول: شرك في الربوبية.
• ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يخلق أو يحيي أو يميت أو يملك أو يتصرف في هذا الكون أحد مع الله، لأن الخلق والإماتة والإحياء والتصرف والملك من خصائص الرب سبحانه فلا تجعل لغيره.
ويكون شرك الربوبية في الأعمال كمن يعلق التمائم أو يلبس الحلقة ونحوها ويعتقد أنها بذاتها محصلة للمقصود من التأثير من دون الله تعالى.
قال ابن عثيمين في (القول المفيد على كتاب التوحيد[1/207]): "إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره ويكون شرك الربوبية في الأقوال كمن يقول بوحدة الوجود فيزعمون أن الله تعالى هو عين المخلوق، أو من يقول بإنكار الخالق عز وجل".
نوع الثاني: شرك في الألوهية.
• ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يطاع طاعة مطلقة مع الله فيتبعونهم في ذلك حتى لو أحلُّوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله، ومنه أيضاً الشرك بالله في المحبة والتعظيم كمن يحب مخلوقاً كمحبة الله تعالى وهو الشرك الذي قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة:165]، ولذلك قال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97-98]، لأنهم ساووا آلهتهم بالله تعالى في الحب والتأليه والخضوع لهم والتذلل.
فمن اعتقد أن لأحد من الناس سواءً كانوا علماء أو حكاماً أو غيرهم حقاً في التشريع (التحليل والتحريم) من دون الله أو مع الله فقد أشرك مع الله إلهاً آخر، وقال الله عز وجل في أولئك: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وهذا أيضاً يسمى شرك الطاعات.
فائدة:
والطائع لمن أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يطيعه في ذلك مع علمه بتبديله لحكم الله ومخالفته للرسل فيعتقد مع ذلك تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله إتباعاً له فهذه الحالة شرك أكبر مخرج من الملة.
الحال الثانية: أن يطيعه في ذلك مع اعتقاده تحريم ما حرمه الله وتحليل ما أحل الله ولكن طاعته له في ذلك عن هوى وعصيان مع اعترافه بذنبه وأنه عصى الله في ذلك فهذا حاله حال أهل الذنوب والمعاصي. (انظر مجموع فتاوى ابن تيمية [7/70]).وقد يكون شرك الألوهية في الأعمال كذلك كمن يصلي لغير الله أو يركع ويسجد لغير الله، أو يذبح لغير الله كأن يذبح للجن أو للقبر كما ذكر المصنف وسبق أن هذا النوع وهو شرك الألوهية أغلب أنواع التوحيد الثلاثة انتشاراً. فمن جعل شيئاً من العبادة لمخلوق كائناً من كان، فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله نداً يصرف العبادة إليه.
• وقد يكون شرك الألوهية في الأقوال كمن يدعو غير الله سواءً كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة أو يستغيث بغير الله أو يستعين بغير الله أو يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فقد وقع في الشرك سواءً كان هذا الغير نبياً أو ولياً أو ملكاً أو جنياً أو غير ذلك من المخلوقات. ولهذا قال الله تعالى عن الذين يدعون غيره: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، لأنهم في حال الرخاء والنجاة يدعون غير الله عز وجل فسماهم مشركين، وهذا النوع يسمى شرك الدعوة، أو شرك الدعاء، والدعاء عبادة عظيمة لا يجوز صرفها لغير الله، فمن دعا الله وهو يريد بالدعاء طلب نفع أو دفع ضر فهذا الدعاء يسمى (دعاء مسألة) ومن دعا الله وهو يريد بالدعاء الخضوع والانكسار والذل بين يدي الله عز وجل شأنه فهذا الدعاء يسمى (دعاء عبادة) والدعاء بنوعيه دعاء المسألة ودعاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله تعالى والدعاء أعظم العبادات وأفضل القربات قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] وقال آمراً بدعائه وسؤاله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وجاء في مسند الإمام أحمد ورواه أهل السنن من حديث بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}.ل ابن القيم في (مدارج السالكين [1/353]) مبيناً شناعة هذا الشرك وعظمه: "ومن أنواعه ـأي الشرك الأكبرـ طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع، والمشفوع له عنده".
النوع الثالث: شرك في الأسماء والصفات.
• ويكون بالاعتقاد كمن يعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيرًا، فالله عز وجل من صفاته أنه علام الغيوب، فمن اعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله فقد أشرك وهذا يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كالرافضة وغلاة الصوفية والباطنية عموماً، حيث يعتقد الرافضة في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك، وكذلك من يعتقد أن هناك من يرحم كالرحمة التي تليق بالله عز وجل إذ أن الرحمة صفة من صفاته جل شأنه والرحمن اسم من أسمائه تقدست أسماؤه فمن اعتقد أن غير الله يرحم كرحمة الله التي تليق بجلاله وذلك بأن يغفر الذنوب ويعفو عن عباده ويتجاوز عن السيئات فقد أشرك لأنه ساوى الخالق بالمخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد يكون شرك الأسماء والصفات في الأعمال أيضاً كمن يتعاظم على الخلق مضاهاة بالله تعالى، وتشبها بصفاته التي منها صفة العظيم.قال ابن القيم في (الجواب الكافي صـ[202]): "فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاء والتجاء واستعانة، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته".
• وقد يكون شرك الأسماء والصفات في الأقوال أيضاً كمن يطلق اسم الرحمن أو الأحد أو الصمد على غير الله تعالى أو يسمى الأصنام بها.
♦ هذه أنواع الشرك الأكبر في أنواع التوحيد الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ذكرتها على وجه التمثيل لا على وجه العد والحصر ومرجع ذلك كله تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله تعالى، ومن أهل العلم من يقسم الشرك إلى أربعة أقسام (وهي داخلة في الأقسام السابقة) إلا أن التقسيم السابق باعتبار أنواع التوحيد الثلاثة، ومن قسمها إلى أربعة أقسام قسمها باعتبار أن أنواع الشرك الأكبر كثيرة ومدارها على أربعة أنواع كما ذكر ذلك في كتاب (مجموعة التوحيد صـ[5]) وهذه الأنواع الأربعة هي:
النوع الأول: شرك الدعوة أو الدعاء.
وهو أن يدعو العبد غير الله كدعاء الله سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة، وسبق توضيح هذا النوع تحت شرك الألوهية في الأقوال، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله كان مشركاً قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117].ع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد.
وهو أن يقصد ويريد وينوي بعمله أصلاً غير الله عز وجل، ويدل على هذا النوع من الشرك قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ . أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] والأصل عند ورود إحباط العمل في القرآن أن سببه الشرك والكفر، وجعل هذا النوع شركاً أكبر محمول على من كانت جميع أعماله مراداً بها غير وجه الله، أما من طرأ عليه الرياء في عمل أصله لله فهو شرك أصغر وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
النوع الثالث: شرك الطاعة.
وهو مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم (أي في التحليل والتحريم) وسبق توضيح هذا النوع تحت شرك الألوهية في الاعتقاد، ومما يجدر التنبيه عليه أن هذا النوع من الشرك وهو شرك الطاعة ربما يقع من العالم الذي اتبع هواه وأطاع غير الله من حاكم أو والٍ أو صاحب أو جاه في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله طمعاً في جاه أو متاع أو سلطان أو رئاسة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى [35/372، 373]): "ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتداً كافراً يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة" قال تعالى: {المص . كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:1-3 ].ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب إتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقاً لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله فهذه سنة الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى: {الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3].
النوع الرابع: شرك المحبة.
وهو أن يحب مع الله غيره كمحبة الله أو أشد من ذلك، وسبق توضيح ذلك أيضاً تحت شرك الألوهية، كمن يحب آلهته من صنم ووثن أو قبر وضريح فيغضب إذا امتهنت وأهينت أشد من غضبه لله، أو يُسر لها أشد من سروره لله.
فائدة: قال ابن القيم في (أقسام المحبة كما في الجواب الكافي[1/134]): "ها هنا أربعة أنواع من الحب، يجب التفريق بينهما، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينهما:
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه والفوز بثوابه فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبه الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر وأحب الناس إلى الله، أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله فيه، وهي من لوازم محبة ما يحب الله ولا يستقيم محبة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله.الرابع: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية وكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه نداً من دون الله وهذه محبة المشركين" أ ـ هـ.
وقال رحمه في (كتاب الروح [1/254]): "والفرق بين الحب في الله والحب مع الله وهذا من أهم الفروق وكل أحد محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا فالحب في الله هو من كمال الإيمان والحب مع الله هو عين الشرك" أ ـ هـ.
نكمل لاحقا